بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد :
فقد نبه العلامة أبوشامة رحمه الله تعالى في كتابه النفيس (( إبراز المعاني من حرز الأماني في القراءات السبع )) على أمور مهمة لايستغني عنها القارئ تتعلق باستعمال الشاطبي رحمه الله لرموز القراء في منظومته المعجزة ، فلما رأيت هذه التنبيهات أستحسنت نقلها هنا لتعم الفائدة ولكني تصرفت بتوضيح الأمثلة وبعض العبارات الغامضة في كلام أبي شامة رحمه الله وبتسهيل العبارة وترتيب العناصر .
فإليكم هذه التنبيهات التي بينها عند شرحه لقول الناظم :
جعلتُ أبا جاد على كل قارئ *** دليلا على المنظوم أولا أولا
التنبيه الاول :
أن هذه الرموز لا يأتي بها مفردة بل في أوائل كلمات قد ضمنها معان صحيحة مفيدة فيما هو بصدده من ثناء على قراءة أو قارئ أو تعليل أو نحو ذلك ، كقوله :
وبسمل بين السورتين بسنة *** رجال نموها درية وتحملا
ففي الباء من أول كلمة "بسنة" رمز لقالون ، وفي الراء من " رجال " رمز للكسائي وفي النون من " نموها " رمز لعاصم وفي الدال من " درية " رمز لابن كثير .
ومع هذا فقد ضمن هذه الكلمات المبدوءة بالرموز معان حسنة وهي أن الرجال الذين بسملوا إنما بسملوا بسنة وهي ما رسمته الصحابة في بعض المصاحف وما نقل في بعض الآثار ، وأن هؤلاء الرجال نموها أي أنهم نقلوها ورفعوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته حال كونهم جمعوا بين الدراية والرواية التي عبر عنها بقوله :
" درية وتحملا"
وهذا مثال واحد من أمثلة تضمين الكلمات ذوات الرموز للمعاني المفيدة الدالة على براعة الشاطبي رحمه الله .
التنيه الثاني :
ونبه أيضا رحمه الله على أن الناظم قد يأتي بالرمز بعد الواو الفاصلة كقوله في فرش سورة يونس :
وكم صحبة يا كاف والخلف ياسر *** وهاصف رضىً حلوًاوتحت جنًى حلا
فالكاف من " وكم " رمز لابن عامر ؛ لأن الواو فاصلة ليست من أصل الكلمة ، أما إذا كانت ليست فاصلة وإنما من أصل الكلمة فلا يكون ما بعدها رمزا كما في قوله في باب هاء الكناية :
وعى نفر أرجئه بالهمز ساكنا *** وفي الهاء ضمٌّ لف دعواه حرملا
فالعين من " وعى " ليست رمزا لأن الواو فيها من أصل الكلمة و " وعى " هنا بمعنى حفظ .
التنبيه الثالث :
أن من المعلوم أن رمز نافع أولُ الرموز لأنه نظمه أولا فيكون رمزه الهمزة من حروف " أبجد " وهذه الهمزة مقطوعة إلا أن الناظم رحمه الله استعملها أحيانا موصولة وأحياناً أخرى مقطوعة .
فمن استعمالاته لها مقطوعة قوله في فرش سورة القيامة :
ورا برق افتح آمنا يذرون مع *** يحبون حق كف يمنى علا علا
فقد رمز لنافع بهمزة القطع في كلمة "آمنا".
ومن استعمالاته لها موصولة قوله في باب هاء الكناية :
له الرحب والزلزال خيرا يره بها *** وشرا يره حرفيه سكن ليسهلا
فقد رمز هنا بهمزة الوصل من " الرحب " لنافع .
واستعماله لهمز الوصل بدلا من القطع مشكل جدا ؛ لأن همزة الوصل ساقطة لفظا فلم تعد بينة ، وأيضا يلزم من فعله هذا الالباس في قوله في سورة الكهف :
وفي الهمز ياءٌ عنهمُ وصحابهم ***جزاء فنون وانصب الرفع واقبلاعلى حق السدين سداً صحاب حـق الضم مفتوح ويايسين شد على
فقد يفهم من ألف "واقبلا" أنها رمز لنافع على أن الواو فاصلة كما مر معنا وهو ليس كذلك فلو تجنب استعمال همزة الوصل مكان القطع لكان أولى .
التنبيه الرابع :
أن الأصل أنه إذا اتفق راويا قارئ ما على قراءة ما فإنه يرمز لهما برمز مقرئهما فإذا اتفق مثلا قالون وورش على قراءة فإنه يرمز لهما بالهمزة التي هي رمز لأصلهما وهو نافع ولا يرمز لقالون بالباء ولا لورش بالجيم ، ولكنه أحيانا يضطره الوزن لذلك فيستعمل رموز الرواة بدلا من استعمال رمز أصلهما كقوله في سورة الكهف :
ودع ميم خيرا منهما حكم ثابت *** وفي الوصل لكنا فمد له ملا
فاللام من "له " رمز لهشام والميم من " ملا " رمز لابن ذكوان وكلاهما يرويان عن ابن عامر فكان يكفيه أن يأتي بالكاف التي هي رمز لابن عامر ويستغني بها عن رموز رواته ولكن اضطره إتمام البيت إلى ذلك وترك الأصل .
التنبيه الخامس :
أنه إذا اتصل شيء من هذه الحروف بضمير قراء تقدم ذكرهم لم يكن ذلك رمزا ، وكان الضمير كالمصرح به من أسمائهم ، ومن حكمه أن المصرح به لارمز معه كقوله في فرش سورة البقرة :
وصية ارفع صفو حرميه رضا ** ويبصط عنهم غير قنبل اعتلى
فالعين من " عنهم " ليست رمزا ، وإنما أراد بـ " عنهم " أن من ذكرهم في الشطر الأول الذين قرؤوا (( وصية )) بالرفع قد روي عنهم القراءة بالصاد في (( يبصط )) غير قنبل منهم .
أما إذا اتصل بهذه الأحرف ضمير غير راجع إلى أحد من القراء السابق ذكرهم فإن الحرف حينئذ يكون رمزا كقوله في باب هاء الكناية :
له الرحب والزلزال خيرا يره بها ** وشرا يره حرفيه سكن ليسهلا
فاللام من قوله " له " رمز لهشام ؛ لأن الضمير المتصل بها لم يعد على أحد القراء السابقين .
التنبيه السادس :
أنه قد جاء في مواضع ألفاظٌ تصلح لأن تكون رمزا وليست برمز في مراده . وذكر أبو شامة أنه بين تلك المواضع في باب المد والإمالة والزوائد وفي بعض فروش السور . وفي باب البسملة موضعٌ أراده الناظم رمزا ولم يوافقه أبو شامة على ذلك .
وهذا التنبيه الذي ذكره أبو شامة هنا هو أهمها وهو المشكل حقا خاصة لمن يقرأ من بعض نسخ الشاطبية الغير مميزة للرموز عن غيرها ،
وأذكر هنا مثالا نبه عليه في باب المد :
ووسطه قوم كآمن هؤلا ***ء آلهة اتى للايمان مثلا
وقد أراد الناظم بهذا بعد أن ذكر قبل هذا البيت وجه القصر والإشباع لورش عند مد البدل أن يذكر الوجه الثالث لورش وهو التوسط ولكنه أوهم بقوله "قوم" أن القاف رمز لخلاد فيكون عليه قد شارك ورشا في هذا الوجه ،وهذا غير صحيح ولم يرده .
ومما زاد الوهم أنه قد استعمل " قوم " لخلاد بقوله وفي باب هاء الكناية :
وعنهم وعن حفص فألقهْ ويتقهْ
حمى صفوه قوم بخلف وأنهلا
لذلك عدَّل الجعبريُّ هذا البيت في كنز المعاني ((1)) فقال :
** ووسطه بعض كآمن هؤلا **
لكن ضبط تضبيطه هذا ملا علي قاري في الضابطية ((2)) بقوله :
** ووسطه جمع كآمن هؤلا **
لأن " بعض " موهمة أيضا بالرمز لقالون ،وأما " جمع " فلا إشكال حتى لو كانت رمزا لأنها حينئذ ستكون لنفس ورش .
وأحسن من هذا تعديل أبي شامة بقوله :
** وبالمدة الوسطى كآمن هؤلا **
وليس المقصود هنا تعديل هذا البيت وإنما المقصود التمثيل به على المشتبهات .
التنبيه السابع :
أنه إذا اجتمعت أكثر من قراءة لقارئ واحد فللناظم من حيث إلحاق اسم قارئها بها حالات هي :
1 _ أنه يسمي لكل قراءة من هذه القراءات ، كقوله في فرش سورة الانفال :
وموهن بالتخفيف ذاع وفيه لم *** ينون لحفص كيد بالخفض عولا
فسمى للقراءة الأولى " حفص " ولما ذكر القراءة الثانية له سماه برمزه مرة أخرى فلم يكتف بإحدى التسميتين عن الأخرى .
2 _ أنه يسمي بعد القراءة الأولى ويعطف الثانية عليها كقوله في فرش سورة الانفال :
ويغشى سما خفا وفي ضمه افتحوا *** وفي الكسر حقا والنعاس ارفعوا ولا
فبعد أن ذكر قراءة (( يغشى )) بفتح الياء والشين لابن كثير وأبي عمرو الذين رمز لهما بـ " حقا " ذكر لهما قراءة رفع (( النعاس )) ولم يعد الرمز فتكون هذه القراءة عطفا على القراءة الأولى المرموز لها بـ " حق " ولم نقل أنها قراءة لما ستأتي تسميته في البيت الثاني ؛ لأنه فصل بالواو الفاصلة بقوله : " ولا " .
3 _ أنه يسمي للقراءتين بعد ذكر القراءة الثانية أو الثالثة .
ومثال تسميته بعد ذكر القراءة الثانية قوله في فرش سورة الانفال :
وفي الروم صف عن خلف فصل وأنث ان *** يكون مع الأسرى الأسارى حلا حلا
فقد ذكر لأبي عمرو قراءتين قبل أن يرمز له بـ " حلا حلا " القراءة الأولى تأنيث (( أن يكون )) ، والثانية مدّ (( الأسرى )) .
ومثال تسميته بعد ذكر القراءة الثالثة قوله في فرش سورة آل عمران :
سنكتب ياء ضم مع فتح ضمه ** وقتل ارفعوا مع يا نقول فيكملا
فقد ذكر لحمزة ثلاث قراءات قبل أن يرمز له بقوله :" فيكملا " .
فالقراءة الأولى بناء (( سنكتب )) للمجهول ، والثانية رفع (( قتلهم )) والثالثة إبدال النون ياءًا في (( نقول )) .