سؤال : مـــا الــــــــــــــغايــــــــة مــــــــن الــــــــــدولــــــــــة ؟
من الصعب جدا على الإنسان أن يعيش بمنأى عن الآخرين ، وهذا التداخل المفروض بين الناس يسمى بالاجتماع ، إلى أن الحياة بهذه الطريقة تستدعي بروز قيم التسامح والتضحية والاستماتة من أجل تكوين كتلة واحدة متفقة ومنسجمة ، وبما أن الإنسان قد يميل إلى الأنانية وحب الذات ، مما قد استدعى التفكير في إمكانية حدوث صراعات ونزاعات قد تؤدي إلى انعدام الجنس البشري فوق هاته البسيطة ، الأمر الذي استدعى قيام قانون وسلطة تترأسها الدولة ، فما الغاية منها؟ سؤال يحيلنا إلى مجزوءة السياسة ، ضمن مفهوم الدولة ، في محورها الأول مشروعية الدولة وغاياتها ، فما هي الدولة إذن ؟ وما سبب وجودها ؟ هل تحرير الفرد من الخوف والرعب ؟ أم إخضاعه للقهر والعنف ؟ هل تعمل الدولة على تحقيق كرامة المواطنين ؟ وكيف يتأتى لها ذلك ؟
قبل الخوض في غمار تجليات هذا السؤال لا بد من الوقوف على تحليل أهم مفاهيمه ، فهو يتكون من "ما " وهي أداة استفهام تتطلب إجابة عن سؤال ما هي ؟ ، ثم الغاية أي الهدف من الشيء والمراد تحقيقه من هذا الشيء ، أي لأجل ماذا ؟ ثم مفهوم الوجود أي الحضور ، وأخيرا الدولة هذا المفهوم الفلسفي الذي يقصد به ذلك التنظيم السياسي لجماعة ما على أرض محددة بهدف حماية القانون وتأمين النظام ، وذلك عبر مجموعة من المؤسسات السياسية والعسكرية والقانونية والإدارية .أما بخصوص منطوق هذا السؤال فهو يقر بوجود غاية للدولة ، ذلك أن الإنسان أثناء تواجده بحال الطبيعة أو المرحلة البدائية كان يعيش ضربا من العشوائية والحرية المطلقة التي تتأطر وفق قانون تعسفي هو قانون الغاب ، وهدفه العمل على خدمة الأقوياء على حساب الضعفاء ، الذين يئنون تحت وطأة الذل والمهانة ، مما شكل خطرا على الحياة الإنسانية وكان بمثابة تهديد بانقراض الجنس البشري عبر حرب الكل ضد الكل ، الأمر الذي استدعى الانتقال إلى حال المدنية عبر وساطة العقد الاجتماعي ، لتصبح غاية الدولة السهر على تحقيق شروط هذا العقد ، وفق مقتضيات ما نسميه اليوم بالقانون .
هكذا يتضح أن الغاية من الدولة هي – وكما يراها جون لوك - المحافظة على الخيرات المدنية لمواطنيها وتنميتها. ومن مظاهر هذه الخيرات الحق في الحياة والحرية وسلامة البدن وحمايته من كل أشكال الألم والعنف والخوف والترهيب والحق في الملكية. وتتجسد مسؤولية الحاكم في التعبير عن القوة المجتمعية المخولة له من طرف كل الأفراد، على أساس أن يكون عمله موافق للقوانين المفروضة على الجميع بالتساوي، كما أن السلطة الممنوحة له مقيدة تقف عند حدود تدبير المجال العمومي ولا تتجاوزه إلى التدخل في الحياة الخاصة للناس ، وفي هذا الاتجاه نجد باروخ اسبينوزا الذي يرى أنه من أسمى غايات الدولة تحقيق الحرية التي تمثل الغاية الحقيقية من قيام الدولة. فعمل الدولة من خلال كل مؤسساتها هو تحرير الفرد من كل أشكال الخوف والترهيب والقهر والظلم والحفاظ على إنسانية الإنسان وتحقيق أمنه، والشرط في ذلك أن تكون ممارسة الدولة مقننة بتوجيهات العقل وموافقته للقوانين وتحقيق الحرية والحفاظ على الحقوق الطبيعية للمواطنين. وإن دولة التعاقد كما يتصورها سبينوزا لا تتناقض مع حرية الفرد بل تتكفل بصيانتها . أما طوماس هوبس فيؤكد أن نشأة الدولة نتيجة لميثاق و تعاقد إداري حر بين الأفراد تم بمقتضاه تنازلهم عن بعض حقوقهم الطبيعية و حريتهم المطلقة ،مقابل تحقيق الأمن و استقرارهم و ضمان حريتهم من طرف شخص أو مجلس يجسد إرادات الجميع ينظم شؤونهم و يضمن السلم و الأمن و يحافظ على حقوق الجميع، و يشترط فيه أن يكون قويا مستبدا كالتنين حتى لا يتطاول أي أحد على الميثاق المتعاقد عليه و عصيان أوامره خشية منه ، وبذلك نشأت الدولة بهدف ضمان الأمن والإستقرار و السلم.
لقد قادنا التحليل إلى إدراك مدى أهمية الدولة في حياة الفرد ، فكيف تستطيع بلوغ هاته الغاية ؟ وهل يمكن اعتبار العنف وسيلة من اجل إنجاح هاته الغاية ؟
إن الدولة من منظور ماكس فيبر سواء كانت تقليدية أو حديثة، ديمقراطية أو استبدادية لا يمكنها أن تستغني عن العنف الذي لجأت له كل التجمعات السياسية، بل إن وظيفتها الأساسية هي ممارسة العنف واحتكار استعماله وتنظيمه بقوانين وإجراءات، ولهذا فالدولة هي المخولة باستعماله وبتفويض من يستعمله. وإن سلطة الدولة هي علاقة هيمنة وسيادة الإنسان على الإنسان مبنية على العنف المادي المشروع. فلكي تمارس الدولة وظائفها واختصاصاتها فإنها تلجأ بالإضافة على الوسائل القانونية إلى العنف المادي الذي تحتكره . ولقد حاول ماكياڦيل الجمع بين العنف والقانون في موقفه الذي اعتبر فيه أن السياسة هي مجال الصراع بين الأفراد و الجماعات مما يؤدي إلى اللجوء إلى جميع الوسائل المشروعة و غير المشروعة فالحاكم أو الأمير يجب أن يكون على أهبة الاستعداد لتوظيف جميع الأساليب، فعليه أن يكون قويا كالأسد و ماكرا كالثعلب حسب مقتضيات الظروف و مجريات الأحداث، كما يمكنه أن يلجأ إلى القوانين و الأخلاق إدا كان ضمان السلطة يتطلب ذلك، و هكذا تصبح جميع الوسائل مباحة لضمان السلطة و ممارستها فالغاية تبرر الوسيلة، أما جاكلين روس فهي ترفض العنف و ترى أن دولة الحق تتمسك بكرامة الفرد ضد كل أنواع العنف والتخويف. وتمثل دولة الحق نموذجا للدولة المعاصرة والتي حددتها بقولها " إنها دولة فيها حق وقانون يخضعان معا لمبدأ احترام الشخص، وهي صيغة قانونية تضمن الحريات الفردية وتتمسك بالكرامة الإنسانية وذلك ضد كل أنواع العنف والقوة والتخويف".
من خلال التحليل والمناقشة يتبين أن غاية الدولة تتمثل أولا وأخيرا في الاهتمام بالفرد ومحاولة حماية المجتمع بصفة عامة من الأخطار المحدقة به، والتي من شأنها إعادته إلى الحالة البدائية ، وقد تعتمد في بلوغ هاته الغايات على عدة وسائل يمكن إجمالها حسب البعض في العنف ، وحسب البعض الآخر في القانون واحترام الحريات ، مما يحيل إلى تعدد غاياتها ووسائلها ، الشيء الذي يدل على مدى تشعب وصعوبة هذا المفهوم ، وصعوبة الخروج منه بقرار حاسم ، ومن وجهة نظري فأرى أنه من الواجب على الدولة أن تعتبر نفسها كوسيلة من أجل خدمة المواطنين والسهر على تحقيق مصالحهم ، وبالمقابل على الأفراد احترام هاته السلطة ، إلا أنه ينبغي الإقرار بضرورة تدخل العنف في الحالات التي يخترق فيها القانون ، فهل العنف كاف لردع المخالفين للقوانين ؟ أم أنه وسيلة لزيادة تشنج علاقاتهم بالدولة؟