سألني صاحبي عن معنى كلمة (( ليت شعري )) ، قائلا (( كنت أقرأ في كتاب فوجدت فيه قولا مرويا عن الرسول ؟ أنه قال: ليت شعري ما صنع فلان، فتوقفت عند هذا القول متأملا وكأنني أرى هذه الكلمة للمرة الأولى، مع أنني قرأتها وسمعتها قبل ذلك عشرات المرات، وما خطر ببالي وأنا أتأملها أن الرسول ؟ ليس بشاعر، وقد نفي عنه القرآن قول الشعر وبين الله سبحانه وتعالى أنه لا ينبغي له عليه الصلاة والسلام الشعر، فكيف يقول : ليت شعري فيما روي عنه؟!)) قال صاحبي موجها حديثه إلي: إني أوجه إليك السؤال عن معنى هذه الكلمة لأنك شاعر، ولا أشك في أنني سأحصل منك على جواب مباشر في الموضوع. قلت له مبتسما : وإذا قلت لك: إنني لست بشاعر ولكني من هواته لا أعرف معنى هذه الكلمة ، ولم أفكر من قبل فيها، مع أنني قرأتها، وقلتها، واستخدمتها في بعض قصائدي كثيرا؟ ولكنني أظن أن معناها لا يخرج عن دائرة الشعور، فالشعر له علاقة بالشعور، فكأن قائلها يريد أن يقول : ليت شعوري بالأمر يكون صادقا، أو ما شابه ذلك وذهب صاحبي غير مقتنع بما قلت، كما بدا لي من طريقة هزة رأسه وهو يقول : (( الله أعلم )) .
وتأملت الكلمة بعد ذهابه، وقلت في نفسي كم من كلمات نستخدمها ونحن لا نعرف معناها، ولا تاريخ بدابتها، وإن كنا نستخدمها استخداما صحيحا من خلال روايتها وتناقلها.
ورجعت إلى لسان العرب لابن منظور، ودخلت إلى عالم كلمة (( شعر )) فإذا بي أدخل إلى حديقة غير صغيرة تجولت في أنحائها مستمتعا متعجبا من المعاني التي تدل عليها كلمة (( شعر )) التي لم أكن ألتفت إليها من قبل، ولربما كان من باب اهتمامي بالقارئ الكريم، ورغبتي في أن يشاركني هذه الجولة ، أطرح هذا الموضوع في هذه المقالة.
يقول لسان العرب: (( شعر به وشعر يشعر شعرا وشعرا، وشعرة ومشعورة، وشعورا وشعورة وشعري ومشعوراء ومشعورا، كلها بمعنى (( علم )) .
يقال : (( ليت شعري )) أي ليت علمي، أو ليتني علمت، ويقال: ليت شعري لفلان ما صنع، وعن فلان ما صنع، وليت شعري فلانا ما صنع، وقد ورد في الحديث، ليت شعري ما صنع فلان: أي ليت علمي حاضر ومحيط بما صنع. ويقال: أشعره الأمر, وأشعره به، أعلمه إياه، وفي القرآن الكريم جاء قوله تعالى (( وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون)) ، أي وما يدريكم، ويقال : أشعرته فشعر، أي: أدريته فدرى، وشعر به أي عقله، وأشعرت بفلان: اطلعت عليه)) .
لا أكتمكم – أيها القراء الكرام – أنني عجبت لهذه المعاني كلها، وأنني بهذه الجولة في لسان العرب أعرف للمرة الأولى، أن معنى شعر وشعر: علم ودرى وعقل وأدرك، وأن معنى (( ليت شعري)) : ليت علمي ومعرفتي وإدراكي .
هذا مع أنني أتعامل مع هذه الكلمة منذ (( نعومة أظفاري )) ، وتعاملت معها في دراستي للنقد الأدبي والدراسات التي اتطلع اليها في الكتب، ولكنني لم أقف مع معاني كلمة (( شعر)) هذه الوقفة التي دفعني إليها سؤال صاحبي عن كلمة (( ليت شعري )) .
لقد مربي كثيرا قول أبي عمرو بن العلاء أحد نقاد الشعر الكبار: كان الشعر علم قوم ليس لهم علم غيره، ولكنني لم أكن أرى أن قصده كلمة العلم بمعناها الحقيقي، حتى اطلعت في جولتي هذه في لسان العرب على هذا المعنى حيث يقول: (( الشعر : هو منظوم القول، غلب عليه لشرفه بالوزن والقافية وإن كان كل علم شعرا، كما غلب (( الفقه )) على علم الشرع مع أن معنى ((الفقه)) أعم، وكما غلب النجم على الثريا، مع أن النجم أعم)) وتمنيت بعد هذه الجولة أن أتحدث إلى ذلك الذي سألني عن كلمة (( ليت شعري )) ، لأخبره بهذه المعاني، ولأزيل اللبس الذي وجده في ذهنه حينما قرأن أن الرسول قد قال هذه الكلمة ، فهو عندما قال عليه الصلاة والسلام ليت شعري، إنما كان يقصد المعنى الصحيح لهذه الكلمة ألا وهو (( ليت علمي))، ولعل صاحبي يقرأ ما سطرته هنا، أو لعل الله – سبحانه وتعالى – يجمعني به لأعتذر إليه عن ذلك المعنى المبتور الذي ذكرته له جوابا عن سؤاله .
لغتنا العربية الفصحى آفاق ممتدة فسيحة، وبساتين ذات بهجة وثراء لغوي عظيم، وثروة كبيرة من المعاني والمفردات والجمل والتراكيب والدلالات البعيدة والقريبة ، إنها عالم فسيح تقصر عن إدراكه عقول أولئك الذين يحاربونها، أو يتهاونون بها، أو يدعون إلى استبدال اللهجات العامية، بما فيها من خلل في الكلمات والدلالات ، بها.
لغتنا العربية كنز عظيم ثمين، نزل بها القرآن الكريم فرسخ مكانتها، ورفع قيمتها، وزاد فصاحتها وبلاغتها تألقا وجمالا ، وتحدث بها الصادق المصدوق الذي أوتي جوامع الكلم – عليه الصلاة والسلام – فوطأ أكنافها وقربها من أفهام الناس وعقولهم .
وأقول : ليت شعري متى يدرك جميع مثقفي المسلمين ، أهمية العناية بهذا الكنز الثمين ؟