الغاية من هذه الفسحة- حسب د.عبد النبي اصطيف مدير عام الهيئة- هي «العودة إلى حميمية العلاقة بين الكتاب والقارئ وتحفيز القارئ على القراءة من خلال خلق تفاعل مستمر بين الكاتب والقارئ». الفكرة إذاً، من حيث المبدأ، تبدو مقبولة نظرياً ربما لكنها على الأرض مشوشة وغير واضحة.. فهل بالضرورة إن تحدث كاتب ما أمام القراء وجلس أمامهم بشحمه ولحمه سيقرؤون له؟! ربما تكون المسألة عكسية النتائج فما ينطبق على كاتب لا ينطبق على آخر، وما يتعاطى به قراء إيجابياً ينفّر آخرين ويجعلهم يصدون متذمّرين، ثم ماذا عن المبدعين الراحلين؟!... وهل يكفي أن يتحدث بعض أصدقاء الكاتب من النقاد والكتّاب عن تجربته أمام الحضور حتى ينهالوا على كتبه قراءة؟!
إغراق بالأكاديمية أمام جمهور افتراضي
«فسحة المبدعين» لا تشي ولا تعبّر عن آلية تطبيقها من حيث الغاية والهدف فإذا كانت الفكرة «خلق حميمية» فهل هذه تأتي عن طريق استخدام المصطلحات النقدية شديدة المدرسية والتعقيد والتلاعب بالعبارات لتبدو أنها من كوكب آخر أمام جمهور القراء الافتراضي فما دمنا نقول إنها فسحة فهذا يعني متنفّساً ومحاولة التحرر من وطأة الأشياء وثقلها، فلماذا الإغراق بالأكاديمية، ولماذا لا تكون الأمور على عفويتها وبساطتها على اعتبار أن القيمين على الفسحة أرادوا لها خلق جو حميمي وعلاقة تفاعلية؟. إلا إذا كان المقصود بها معناها اللغوي الضيق «فرّج له» و«اتسع» من السعة والفرجة والأماكن المتباعدة ليأتوا بالمبدعين الكتّاب إلى مكان بدا فسيحاً لقلة وندرة الحضور (القراء) ولاسيما أن أجنحة المعرض متلاصقة ومتزاحمة ومتخمة بالكتب وأنفاس البشر في حركة بلا بركة، في مكان ضاقت فيه الكتب ذرعاً وهي مكومة ومسطرة على الرفوف.
البحث عن قطعة الجبنة في متاهة
السؤال أيضاً أين هم القراء ليخلقوا جواً حميميا؟ ففي «الفسحات» الأولى لا قارئ واحداً حضر، فقط داخ فيها ثلة من النقاد والإعلاميين حتى وصلوا إلى القاعة «الفسحة» وسط غياب كامل للإعلان عن هذه التظاهرة في بدايتها، ووصف محمد أبو معتوق القادم من حلب ليكون محط أنظار القراء «إن الوصول للمكان تعجيزي كمن يبحث عن قطعة الجبن في لعبة المتاهة»، وردّاً على د.اصطيف الذي برر الأمر «بأن الهيئة لا تستطيع أن تقوم بالإعلان والإعلام ولا تستطيع أن تقوم بكل الأدوار إلا إذا كنا نوزع الحلوى!!» قال أبو معتوق وقد بدا كمن وقع في ورطة أو في فخ حيث وجد المقاعد خاوية: «لا تحتاج المسألة لكل ذلك الجهد فإعلان واحد في صحيفة من الصحف الأربع يفي بالغرض وهو أجدى من خمسين إعلاناً في أروقة المعرض» ليأخذ مكان انعقاد «الفسحة» بحد ذاته أخذاً ورداً.. لماذا لا يكون في حديقة تشرين مثلاً؟! (علّق أبو معتوق).
جعفر: اقتناص وتقويض
في الفسحة المخصصة للكاتب الأديب محمد أبو معتوق تصدّر المنصة كل من: نذير جعفر وفيصل خرتش يتوسطهما أبو معتوق الذي بدا بقبعته ووجهه المدور وجلسته متواضعاً دمثاً لا يشبه كثيراً من كتاباته المشاكسة والمشاغبة ليصفه جعفر بأنه: «مبدع موسوعي النوع وليس على مستوى الكم وغزارة النتاج فحسب.. وهذا التنوع في اهتماماته لم يكن على حساب فنية العمل وقيمته المعرفية والجمالية بل كان هاجس التجديد والتجريب وارتياد حقول بكر مدار اهتمامه الأول». وإذا كانت السمة الرئيسية التي تطبع نتاجه هي- حسب جعفر- استعادة التاريخ أو اقتناص اللحظة المفصلية والجوهرية في الواقع المعاصر والمزج بينهما أحياناً، فإن الأهم- برأي جعفر- هو نزعته العالية في التخييل واللعب باللغة وابتكار تقنيات سردية تخلخل آليات التلقي التقليدية والولع بالسخرية والدعابة التي لا تسعى إلى الإضحاك بقدر ما تثير الحوار والسؤال وصولاً إلى المعرفة والمتعة الفنية في آن معاً، أما النص لديه فهو نص تقويضي لا يمكن- وفق جعفر- تمريره أو تأطيره فهو نص فلوت كلما منحت قراءته معنى جاءت القراءة التالية لتقوض هذا المعنى.. ثم إنه التفت إلى المسكوت عنه في الواقع والتاريخ وأعاد قراءته فنياً مازجاً بين الجد والهزل والسخرية والعبث وهي العناوين العريضة للتراجيديا الاجتماعية والسياسية التي يعيشها المواطن العربي.
خرتش: انتصارات وخيبات
تساءل فيصل خرتش: هل تعرف محمد أبو معتوق يا صديقي؟ ويجيب: أبطاله عاديون بسطاء وأليفون، لا يخطط لهم مسبقاً، يمسك بالقلم ويبدأ الكتابة وسرعان ما يرتسم على الورق شخصيات لها روح قد تختلف معها أو تأتلف لكنها تظل شخصيات لأبو معتوق الذي لم تدهشه الانتصارات العظيمة- حسب خرتش- ولا الأبطال الذين يحققونها، إنه يتحدث عن الخيبات التي ينجزها بشر عارفون لا تشغلهم الانتصارات ولا يكترثون بمخططاتها لذلك يدخلون إلى عزلتهم ومعهم العالم برمته ويخرجون إلى العالم وليس معهم سوى عزلتهم وهم على ذلك ليسوا منكسرين ولا خائبين إنهم- يعقب خرتش- يحسون بخيبة عالمهم ولا يتنكرون له.. يحسون بانكسارات الناس وهم يسمعون طقطقة عظامهم.
اعترافات أبو معتوق
محمد أبو معتوق يعترف أن أصحاب التجارب أسوأ المتحدثين عن أنفسهم وأن زماننا معادٍ للشعر وغير ملتفت إليه وأن عالمنا يضيق بالحوار والحرية فتحولت الخشبة في المسرح إلى مقصلة للحوار وحضرت الرقابة لتحاكم المبدع كمتهم يحاكم على جريمة. أبو معتوق عُدّ في بداياته- على حد قوله- من الهراطقة وجرّب في ميدان القصة مبالِغاً في التجريب والحكاية ليمنح الشامتين والمستنكرين فرصة للعيش واجتراح النبوءات والمعجزات. ويقول أبو معتوق: «لقد كنت في كتابة الشعر شديد التعقل.. لذلك أعياني وأعييته وها أنا عندما حاولت مع الرواية والقصة لم أترك حافة للجنون إلا وكنت واردها». وعن معضلته وربما خصوصيته في الكتابة بكل أطيافها وأجناسها يرى أبو معتوق أنه نجح في ممارسة لعبة إقصاء العقل الظاهر وتحويله إلى فعالية منصاعة للحدس.. وللمخيلة الصاخبة..
والمهم بالنسبة له أن يبدأ والبداية تستدعي محفزاتها ولوازمها وكأنها تستدعي نصها بذاتها ودون إرادة منه. لذلك تراه يذهب بعيداً مع التداعيات التي تنتابه وتربك يقظته وغيبوبته وعندما يتم النص تتبدى له المعضلة. ويكون ذلك عندما يحاول أن يستدعي القليل من اليقظة ليقارن بين مقدمة القصة وسياقها وخاتمتها.. وعندما يفعل أبو معتوق ذلك يحس- كما يقول- بالفداحة والهول اللذين ارتكبهما.
